قد يكون من البديهي الإشارة هنا إلى تصرفات الأطفال بهذا الشكل، والتي تختلف فيما بينهم بحسب القدرات المعرفية لدى كل منهم، بمعنى أنه كلما أصبح الطفل قادراً على الفهم والاستيعاب بدرجة أكبر، فإن معايير سلوكه تصبح أكثر ميلاً إلى تجاوز التحريمات البسيطة مثل «لا تضرب أخاك الأصغر». ويصبح الطفل أشد وعياً بالتطبيقات الأعم للمعايير والقيم الأخلاقية، مدركاً مثلاً أن معظم الكائنات الحية تستحق منا أن نعاملها برفق! من هنا نرى أن الأسرة هي التي تقع في المكان الأول من بين العوامل السابقة جميعاً. لتوضيح ذلك نقرأ بعض ما جاء في الدراسة التي أعدتها الدكتورة ناصرة الشربتلي- الباحثة بمعهد دراسات الطفولة بجامعة عين شمس- والتي توضح فيها أنه خلال مراحل النمو الأولى من عمر الطفل يعتبر الأبوان والأقران هم العناصر الأشد تأثيراً في نمو الطفل اجتماعياً. إن أعضاء الأسرة هم الذين تكون صلتهم بالطفل في هذه المرحلة أكثر دواماً، وأثقل وزناً. كما أن التفاعل بينهم وبين الطفل يكون أشد كثافة وأطول زمناً. تشكيل السلوك الاجتماعي للطفل وتمضي الدكتورة ناصرة قائلة إن تأثير الأسرة في تشكيل السلوك الاجتماعي للطفل يتم من خلال ما يمكن أن نسميه عملية التنشئة الاجتماعية، فعن طريق هذه العملية يكتسب الطفل السلوك والعادات والعقائد والمعايير والدوافع الاجتماعية التي تقيمها أسرته، والفئة الثقافية التي تنتمي إليها هذه الأسرة. ولكن ما التنشئة الاجتماعية، وما المجالات السلوكية التي يكون للتنشئة تأثير عليها في الشهور أو السنوات الأولى من عمر الطفل؟ - قال بعض الآباء الذين قمنا باستطلاع آرائهم حول تلك الجزئية: إنهم كانوا يسعون باستمرار إلى إحلال عادات ودوافع جديدة محل عادات ودوافع كان الطفل قد كونها بطريقة أولية. وأضاف بعضهم أنهم كانوا يهدفون من وراء ذلك إلى جعل أبنائهم يكتسبون أساليب سلوكية، ودوافع وقيماً واتجاهات يرضى عنها المجتمع. وكيف يقوم الآباء بهذه العملية بالفعل، وما الذي «يعملونه» لكي ينشئوا أبناءهم اجتماعياً؟ إحدى الطرائق التي قال الآباء إنهم يستخدمونها في عملية التنشئة الاجتماعية هي طريقة الثواب والعقاب. وعلى الرغم من شيوع تلك الطريقة، فإن بعض الدراسات الاجتماعية أثبتت أن نسبة من الأطفال لا ينتظرون حتى يوقع عليهم الجزاء «ثواباً أو عقاباً» لكي يكتسبوا ألواناً جديدة من السلوك. فالأطفال يتعلمون أيضاً عن طريق الملاحظة والتقليد، ثم إنهم يتعلمون أيضاً عن طريق التوحد مع الوالدين! أشارت نتائج الاستبانة أيضاً، إلى أن الطفل يبدأ في تقليد أفعال الآخرين في نهاية السنة الأولى من حياته، إلا أن الملاحظ أن التقليد عندئذ لا يعتمد على الصورة الذهنية بقدر ما يعتمد على الملاحظة المباشرة للفعل. «من الأمثلة التي أوردتها بعض أفراد العينة في هذا المجال عندما يضع الطفل شيئاً ما على وجهه ثم يدفعها فجأة تقليداً لما تفعله أمه في أثناء ملاعبتها له بهذه الطريقة». غير أن بعض الأمهات أشرن إلى أن أطفالهن عندما وصلوا إلى سن السنة والنصف أو السنتين، فقد أصبح بإمكانهم تكوين صورة ذهنية لما يقع حولهم، والاحتفاظ بتلك الصورة واسترجاعها. وفي هذه المرحلة أيضاً يقوم الأطفال بتقليد كل شيء يقع تحت ملاحظتهم حتى جلوس الآباء وطريقة تناولهم للأشياء أو أسلوب الكلام! أكثر من ذلك، فإن بعض أفراد العينة أكدوا أن أبناءهم في تلك المرحلة كانت لديهم رغبة كبيرة في القيام بكل شيء يفعله آباؤهم وإخوانهم. وفي بعض الأحيان فإن هذه الرغبة كانت تتعدى حدود إمكاناتهم. فما كانوا يريدون القيام به لم يكن يتناسب بالمرة مع قدراتهم الفعلية. ومع ذلك، فإنهم قد تولد لديهم الشعور بأنهم أعضاء في أسرهم ولهم قيمتهم، لأنهم يستطيعون الآن إنجاز الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الآخرون. الشعور بالثقة من خلال المعلومات التي توفرت لدينا من نتائج الاستطلاع بين الآباء والأمهات تبين لنا أن كل مهارة يكتسبها الأطفال كانت تزيد من شعورهم بالسيطرة على البيئة وفي الوقت نفسه كانت تزيد من شعوره بالكفاءة. تقول إحدى أفراد عينة البحث: «عندما تمكن طفلي من الإمساك بسماعة الهاتف والتحدث ببعض الكلمات، فإن ذلك قد أدى إلى شعوره بالثقة بقدراته الخاصة، فيما بعد». أما بعض الأطفال الآخرين فكانوا ينتهزون كل فرصة لإثبات مدى قدرتهم على القيام ببعض الأفعال. وقد يدفعهم ذلك في بعض الأحيان إلى محاولة مد أنشطتهم لكي تشمل مقداراً كبيراً من الأعمال اليومية. فهم يبذلون كل جهد لكي يشاركوا في معظم القرارات الخاصة بهم. مثل الذهاب إلى الفراش، وارتداء الملابس بمفردهم، واستخراج أطعمتهم من الثلاجة، وهكذا. تدليل وتساهل وهو من بين أساليب التنشئة الأكثر شيوعاً. قد يكون ذلك من قبيل القيام عن الطفل بما يطلب منه من واجبات مع عدم توجيهه لتحمل أية مسؤوليات تتناسب مع مرحلة النمو التي يمر بها. وقد يتضمن هذا الاتجاه أيضاً دفاع الوالدين عن التصرفات والسلوكيات غير المرغوب فيها ضد أي توجيه أو نقد يصدر إلى الطفل من المحيطين به. لقد تبين أن مثل هؤلاء الأطفال عندما ينتقلون إلى عالم الواقع يصطدمون بصعوبات كثيرة، فإذا واجهتهم بعض المواقف الإحباطية فإنهم يتعرضون لبعض مظاهر الاضطراب النفسي والعصبي، مثل قضم الأظفار، ثورات الغضب، عدم احترام مواعيد الطعام. وهكذا.. حيث ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن مسالك الأطفال تختلف تبعاً لدرجة الضبط التي يستخدمها الآباء. فغالباً ما تجد الذكور العدوانيين ينتمون إلى الأسر التي تتصف فيها الأم بالسيطرة المبالغ فيها، أو التساهل المبالغ فيه تجاه تصرفات الأطفال. تشدد وقسوة يتضمن ذلك الوقوف أمام رغبات الطفل التلقائية، أو منعه من القيام بسلوك معين. وقد يستخدم الوالدان في سبيل ذلك أساليب متنوعة تختلف درجة خشونتها أو نعومتها. ومنها صنوف التهديد المختلفة أو الخصام أو الإلحاح أو الضرب أو الحرمان وما إلى ذلك. لكن النتيجة النهائية هي فرض الرأي، سواء بالضعف أم اللين. ويقصد بالقسوة استخدام أساليب العقاب البدني (الضرب) والتهديد به، والحرمان، وإثارة الألم النفسي كأسلوب أساسي في عملية التطبيع الاجتماعي. ويؤكد المختصون أن لقسوة الوالدين وصلابتهما في معاملة الأبناء آثاراً خطيرة، حيث إن ذلك يساعد على إنشاء شخصية لا تقوى على إبداء الرأي وخائفة ومستكينة. كما أنها تؤدي إلى تقوية الناحية الهدامة في ضمير الطفل، وإضعاف ذاته وتأخير نضجها. وبالتالي ينمو مثل هؤلاء الأولاد عاجزين عن الاعتماد على أنفسهم. وتظهر بعض الدراسات الميدانية أن من أخطر الآثار للقسوة والصرامة كراهية الأطفال لمنازلهم، وقد يلجأون إلى الفرار منها، مما يعرضهم لأشكال مختلفة من الانحرافات السلوكية وممارسة ألوان من السلوك المضاد للمجتمع مثل التشرد أو الجنوح للإجرام. في مقابل ذلك، هناك الأب المتراخي الذي يترك لأطفاله الحبل على الغارب، إلى درجة أن الطفل قد لا يشعر بأنه يعيش مع أب. وقد يستوي هذا مع الطفل الذي لا يعيش فعلاً مع أب. الأب الحازم بين هذا وذاك، نجد الأب الحازم الذي تتميز تنشئته لأطفاله بالاعتدال، فهو يؤدب الطفل لأسباب معقولة يفهمها الابن، ويحاول دائماً أن يفهمه لماذا عوقب. ويظل يقنعه حتى يقتنع. ويعتمد مثل هؤلاء الآباء بشكل أساسي على الإقناع، وليس على الفرض والإلزام. كما أن العقاب يتناسب مع الخطأ. كيف نربي أطفالنا؟ يوضح لنا ذلك الأستاذ خالد بن صالح الشمري- الاختصاصي النفسي بمستشفى الأمل بالرياض- قائلاً: مما لاشك فيه أن أخطاء السلوك عند الأطفال هي هم وهاجس كل أبوين. وهي مظهر من مظاهر الخلل في التربية الوالدية السوية، ولا يكون علاجها إلا بتنمية العنصر المفقود الذي يؤدي غيابه إلى ظهور الخطأ أو المشكلة. كذلك في التربية لابد من الاهتمام بالحاجات التي تشكل سلوك الطفل وشخصيته ونموه سواء في معتقداته أو معارفه أو أخلاقه أو حتى عواطفه. وهنا لابد أن نشير قبل الإجابة عن التساؤل الذي يوجهه الآباء والأمهات باستمرار، وهو «كيف نربي أولادنا من الجنسين؟» إنه لابد من معرفة لماذا يرتكب الأطفال الأخطاء وبالتالي نستطيع أن نحدد الأساليب المناسبة لتعديل هذه الأخطاء. - فالطفل يخطئ في حالات كثيرة لأنه لا يعرف السلوك الصحيح وبالتالي لابد من تعليمه. - وقد نعلّم الطفل السلوك الصحيح، ومع ذلك يخطئ لأنه لم يتلق منا تشجيعاً وتعزيزاً لسلوكه الصحيح وبالتالي انعدام تكراره. - وقد يخطئ الطفل في أحيان أخرى لأنه وجد في السلوك الخاطئ ما يشبع حاجاته ولم نوفر له البديل الصحيح.